
من الانكسار إلى الانتصار:
قبل النصر بسنوات قليلة، عاشت مصر واحدة من أقسى فتراتها بعد نكسة 1967. كانت الهزيمة أكبر من خسارة أرض، كانت جرحاً في الكبرياء. لكن المصريين لم يعرفوا الاستسلام. في صمت، بدأت الدولة تعيد بناء الجيش من جديد.
الجنود تدربوا في قسوة، القادة أعادوا رسم الخطط، والمصانع المصرية بدأت تنتج السلاح. كانت حرب الاستنزاف هي المدرسة التي وُلد منها مقاتلو أكتوبر. دماء الشهداء على الجبهة كانت رسالة واحدة: أن ما ضاع سيعود، مهما طال الطريق.

عبور المستحيل :
في ظهر يوم السادس من أكتوبر، ومع دقات الساعة الثانية، دوّت صفارات الإنذار في قلب سيناء. في دقائق، تحولت القناة التي ظنها العدو «مانعاً لا يُعبر» إلى طريق للعبور.
الجنود المصريون عبروا الماء تحت نيران المدافع، وحطموا خط بارليف الذي قالت إسرائيل إنه لا يُدمّر. استخدموا خراطيم المياه لفتح الثغرات في الساتر الترابي، في مشهد عبقري أصبح يُدرّس في الأكاديميات العسكرية حول العالم.
في ساعات قليلة، تحولت دهشة العدو إلى صدمة. أكثر من 200 طائرة مصرية شاركت في الضربة الجوية الأولى، مهدت الطريق لآلاف الجنود الذين رفعوا العلم على الضفة الشرقية.
وحدة الدم والمصير :
لم تكن الحرب مجرد مواجهة عسكرية. كانت معركة أمة كاملة. في القاهرة، كان الشعب يتبرع بالدم والمال، والنساء يصنعن الطعام والملابس للجنود. في كل بيت مصري، كانت القلوب على الجبهة، والأمل واحد: أن تعود سيناء، وأن تعود الكرامة.
حتى في العالم العربي، كانت الروح واحدة. الجيوش السورية شاركت على الجبهة الشمالية، والدول العربية استخدمت سلاح النفط لأول مرة كسلاح سياسي. أصبح السادس من أكتوبر رمزاً لوحدة العرب وقوتهم حين تتوحد الإرادة.

توازن القوة وتغير المعادلة :
ما حدث في أكتوبر لم يكن نصراً عسكرياً فقط، بل تغييراً في المفهوم نفسه. لم تعد القوة تُقاس بالسلاح فقط، بل بالتخطيط والإرادة.
في تلك الحرب، أثبتت مصر أن المعركة تُكسب بالعقل قبل الذراع. استخدمت الخداع الاستراتيجي ببراعة: تدريبات متكررة أمام العدو حتى اعتاد رؤيتها، ثم تنفيذ الهجوم الحقيقي في التوقيت الذي لم يتوقعه أحد.
نجحت القيادة المصرية في إخفاء نواياها حتى اللحظة الأخيرة، فكان العبور مفاجأة كاملة قلبت موازين الحرب وأربكت العالم كله.
ما بعد النصر :
بعد وقف إطلاق النار، بدأت مرحلة جديدة من الكفاح. استعادة الأرض لم تكن بالسلاح وحده، بل بالمفاوضات والصلابة السياسية.
معركة المفاوضات كانت امتداداً لحرب أكتوبر، بنفس الإصرار والهدوء والحكمة.
استعادت مصر أرضها كاملة حتى آخر حبة رمل في سيناء، لتثبت أن النصر لا يكتمل إلا عندما يُترجم إلى واقع على الأرض.
دروس للأجيال :
نصر أكتوبر ليس ذكرى تُروى فقط، بل مدرسة تتعلم منها الأجيال:
أن الإيمان بالوطن يصنع المعجزات.
أن اليأس خيانة، وأن الإرادة تهزم المستحيل.
أن الجندي المصري حين يؤمن بالقضية لا يُهزم.
أن الوحدة بين الشعب والجيش هي سر القوة الحقيقية.
ما فعله جيل أكتوبر لم يكن فقط تحرير أرض، بل إعادة تعريف معنى الوطن.
أكتوبر اليوم :
بعد 52 عاماً، تبقى ذكرى أكتوبر حية في كل بيت مصري.
نراها في عيون من عاشوا تلك الأيام، وفي فخر من وُلد بعدها.
تذكرنا أن هذه الأرض لم تُحفظ بالكلمات، بل بدماء وعرق وشجاعة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
حين نحتفل بذكرى أكتوبر، نحن لا نحتفل بحرب، بل بروح. بروح لا تموت، روح تقول لكل جيل قادم:
مهما كانت الصعاب، تذكر أن أبناء مصر عبروا من الهزيمة إلى النصر في ست ساعات فقط، لأنهم آمنوا أن الوطن أغلى من الحياة.
في الذكرى الـ52 لنصر أكتوبر، يبقى الدرس واحداً:
أن من يحمي وطنه بإيمانه، لا يُهزم.
ومن يسير خلف حلمه بثقة، لا يتراجع.
ومصر، التي عبرت المستحيل بالأمس، قادرة أن تعبر أي تحدٍ اليوم.




